جابر القصاص لـ موقع أوراق عربية …. المُحاكمة – قصة مُسلسلة ج 9
![موقع أوراق عربية - روايات - قصص مسلسلة](https://awraqarabia.net/wp-content/uploads/2020/06/،-المُحاكمة-،-موقع-أوراق-عربية.jpg)
كان (الفولي) غاضبًا بشدة.. ولكن متى لم يكن (الفولي) غاضبًا بشدة؟!
(الفولي) يبحث عمن يعاركه.. ولكن متى لم يكن (الفولي) يبحث عمن يعاركه؟!
(الفولي) أضخم تلميذ بالمدرسة الإعدادية، وأكثرهم شراسة، لديه قوة بدنية هائلة، وقدرات عقلية محدودة، وحتى الآن لا أدري أيهما أسوأ!
لم يكن يمر علينا يوم بالمدرسة إلا نرى (الفولي) يمسك بأحد التلامذة ويوسعه ضربًا، ولا أحد منا يجرؤ على التدخل،
ولا حتى على إبلاغ أحد المعلمين ليتدخل، لأن (الفولي) يبحث كل يوم عن خصم جديد، أو ضحية جديدة إن شئنا الدقة، ولديه مقدار طفيف من الضمير يجعله يبحث عن سبب للعراك، ولا يرضيه أن يبدأ العدوان بدون سبب،
وطبعًا بعد أن يفرغ من ضحيته سيبحث عمن حاول التدخل للحيلولة بينه وبين الضحية، ولو بنية الحجز بينهما فقط، كما أنه لن يدخر وسعًا في البحث عمن أبلغ إدارة المدرسة عن اعتدائه، وكلاهما سبب مريح جدًا لضميره لبدء عدوان جديد..
وهذه المرة وقع اختياره على (فوزي) زميلنا بالصف!
اسمه (حمادة)، هكذا (حمادة)، ليس (محمد) ولا (أحمد) وتم تحريفه إلى (حمادة) على سبيل التدليل،
بل هو (حمادة) كما هو موثق بشهادة ميلاده وأوراق التطعيم، وينادى عليه بهذا الاسم في كل المناسبات التي تتطلب الاسم الرسمي، أما (الفولي) فقد علمنا جميعًا أنه لقب لجده، وتوارثه الأبناء والأحفاد من بعده.
لماذا اختار (فوزي) بالذات؟ إنه أكثر التلاميذ ضآلة وانطواءً وخجلًا، ليس فيه ما يغري (الفولي) باستعراض عضلاته عليه لإثبات قوته،
يفترض أن يختار خصمًا أكثر ضخامة وقوة، بحيث يكون للانتصار عليه مذاق ماتع ومنعش، لكن هذا ما حدث، ولم يكن ثمة وقت لاكتشاف سبب هذا العدوان هذه المرة!
(فوزي) تلميذ ضئيل الحجم، كما أنه خجول وانطوائي بشدة، لا نذكر أبدًا أنه افتعل مشكلة مع أحد، كان لا يتكلم إلا قليلًا، ولا يفعل شيئًا إلا نادرًا، وبالتالي لا يعلق بالذاكرة، فقط أذكر أنه كان معي أغلب الأوقات، نلعب معًا، ونضحك ونمرح معًا، ونخاف ونبكي معًا
لكني لا أذكر شيئًا له شيئًا خاصًا أو مستقلًا له من دوني!
أذكر أن بعض الصبية كانوا يضايقونه، ويسعون جاهدين لجعله يبكي، وكان بالفعل يبكي، ما أسرع أن يبكي، فكان الآخرون يتدخلون دائمًا لتوبيخ المتسببين في بكائه واتهامهم بالخسة والتنمر، واستضعافهم هذا الصبي الضئيل الواهن!
من المواقف القليلة التي أذكرها لـ (فوزي) في الفترة الابتدائية حب معلمة الرياضيات – الأستاذة (سعاد) – له،
وثنائها عليه أغلب الوقت، فقد كان (فوزي) من أنبغ التلاميذ في الحساب، دون غيره من المواد، لكنها كانت تثني عليه لأدبه وهدوئه أكثر مما تثني عليه لنبوغه، فقد كانت تضيق بثرثرتنا وضوضائنا،
ويبقى (فوزي) هو التلميذ الأهدأ، والأوحد الذي لا يصدر أية ضوضاء، وكنا نشعر بالحنق والحقد لتفضيلها إياه علينا،
فكنا نعيره بها، ونقول له: “يا بتاع (سعاد)” ونكررها مرارًا ولا نتركه حتى يبكي، فنشعر بتأنيب الضمير قليلاً، قبل أن نعاود نفس الفعل بعد أيام!
وأذكر أيضًا أن (فوزي) كان يتيم الأب، توفي أبوه في حادثة قبل أن يدخل الولد المدرسة، وأذكر أنه في بداية كل عام دراسي كان أحد إداريي المدرسة يدخل الفصل ليسألنا:-
– “من منكم أبوه ميت؟”
وكان (فوزي) لا يرفع يده حتى نشير نحن عليه، ونقول: هذا! وكنا نحسده على هذا اليتم لأنهم يعفون التلاميذ اليتامى من دفع مصاريف الدراسة، فكان لسان حالنا جميعًا: “هنيئًا له!” ومنا من كان يقولها له صراحة!!
كنا جميعًا نتشاجر فيما بيننا إلا هو، كان يتجنب أي شجار، نظرًا لنحافته وضعف بنيانه،
حتى لو تعرض للضرب كان يبكي دون أن يقاوم، حتى يشفق عليه أحد الرفقاء فيتدخل لإنقاذه من المعتدي،
ولم يكن يبالي بوصفنا له بالجبان، أو معايرتنا له ببكائه، لكن مع دخولنا المدرسة الإعدادية حدث له تغير عجيب،
إذ كف عن البكاء نهائيًا، مهما تعرض للسخرية أو الاعتداء، ومهما فقد من الأشياء..
لا أذكر كيف بدأ الشجار، لقد انفصل عنا (فوزي) في الفسحة، وبعد لحظات سمعنا الضجة،
ورأينا التفاف التلاميذ على بقعة ما من المدرسة، وهم يطلقون الصيحات،
وحين هرولنا – أنا وبعض الأصدقاء – إلى هناك رأينا (الفولي) جاثمًا فوق شخص ما – لم نميزه في بادئ الأمر- يكيل له الصفعات والسباب، حتى انتبهنا بعد برهة إلى أن الضحية هذه المرة هو (فوزي) رفيقنا..
كان يفترض أن نتدخل لنحميه، فنحن أقرب أصدقائه،
لكن خوفنا الشديد من (الفولي) جعلنا نتغاضى عن واجبات واستحقاقات هذه الصداقة،
ووقفنا نشاهد الحدث كالآخرين ونحن نتألم في صمت لما يحدث له!
لمتابعة المزيد من أعمال جابر القصاص بــ موقع اوراق عربية / روايات – قصص مسلسلة
لمتابعة المزيد من الأعمال بـ روايات – قصص مسلسلة / موقع اوراق عربية علي فيسبوك