مينا ناصف لأوراق عربية …. قراءة في ديوان من اللى يقدر ساعة يحبس مصر -لزين العابدين فؤاد

مينا ناصف لـ موقع أوراق عربية …. قراءة في ديوان من اللى يقدر ساعة يحبس مصر -لزين العابدين فؤاد
عندما أكتب عن شاعرٍ بحجم زين العابدين فؤاد؛ فأنا أكتب عن “ثورة وشعب”
فهو شاعر يسكن الوطن، والوطن يسكنه، قريب جدا من الشارع، حفر الزمن على جبينه تاريخ نضالي كبير؛
لدرجة تعتقد معها انه أحد معالم مصر القديمة أو بوابة من أبوابها التاريخية.
بدأ زين العابدين فؤاد تجربته الإبداعية بكتابة الفصحى، لكنه تركها وتحول إلى العاميّة المصريّة؛
فهي الأقرب للناس اللي بيكتب عنهم ويناضل من أجلهم؛ تلك العامية التي قال عنها أحمد فؤاد نجم:
(هي أكبر من ان تكون لغة .. هي روح الشعب المصري).
وبالفعل وجد زين العابدين فؤاد في العامية ضالته؛ فهي التى مكنته من تقديم أشعاره الثائرة؛ فهو في تقديري أحد أمراء شعر الرفض، وقد دخل إلى عالمها عن طريق صوت زعيم جمهوريتها الشيخ إمام عيسى؛
ليكون “قرارها” صوت “إمام”،و “جوابها” صوت الثوار في كل زمان ومكان؛
فتردد الجوقة في سلاسة متناهية: مين اللى يقدر ساعة يحبس مصر؟
لا يخفى على أحد، ما تعرض له هذا الشاعر من مضايقات كثيرة، خاصة بعد صدور قرار شفهي بمنعه من النشر؛
على خلفية قصيدته التي ألقاها أمام جيهان السادات
فبمجرد ان قال: قومي يا مصر ضدّ الجوع وضدّ التتار، حتى ردت عليه السيدة جيهان: مصر مفهاش جعانين، وغادرت القاعة!!،
وفي نفس اليوم صدرت تعليمات شفهيّة بمنعه من النشر.
ما حدث مع “فؤاد” القصيدة الثورية نفس ما حدث مع “نجم” القصيدة السياسية فاجومي مصر الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم، والذي سجنه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر،
ولم يشفع له توسط المناضل الفلسطينى نايف حواتمة، عند الزعيم جمال عبد الناصر، والذي قال وقتها: نجم ده عمره ما هيخرج من السجن طول ما أنا عايش!.
ظلت أشعار زين العابدن فؤاد ممنوعة من النشر إلى ان قامت الهيئة المصرية العامة للكتاب بطبع ديوان “الحلم في السجن”، والذي سبق وطبعته دار ابن خلدون ببيروت عام 1978،
ولكنه هذه المرة طُبع تحت عنوان (مين اللى يقدر ساعة يحبس مصر؟)
وكأنهم ارادوا فتح صفحة جديدة مع الشاعر.
شكل الديوان صرخة شعرية شديدة القوة والوضوح؛ فجميع الأشعار كُتبت داخل سجون مصر.
قد يرى البعض قيام الدولة بإعادة طبع الديوان نوعا من التصالح، ولكن عندما تعرف ان الديوان صدرعام 2012 ستعرف ان في طبع الديوان دلالة، وفي التاريخ تفسير.
يبدأ الديوان بغنائية شعرية عنوانها “أغنية للبداية” ويالها من بداية ساخنة وصادمة؛
بل ومستمرة فقد استخدم الشاعر أفعال المضارعة تارة، وأفعال الأمر تارة آخرى،
ذلك إلى جانب (واو الجماعة) بحيث يضمن الاستمرارية، ولكن بشكل ثوري من خلال أفعال الأمر في صيغ تراوحت بين الرجاء والتمنى،
هذه الأدوات هي أولى حروف أبجدية شاعرنا، والذي يقول في أولى قصائد الديوان:
تكبري تحت قوس الرصاص
تكبري في الخطر، وفي الشجر، وفي العطر، وفي العيون
تكبري في الغنا، في البكا، في الغنا للسجون
اكبري واعرفي
تفتحي بوابات النهار
النهار العفي
النهار البارود
اكبري واعرفي
تطرحي كل القيود
يستمر الشاعر في استخدام أفعال المضارعة في العديد من القصائد مما يعطيها حالة من التجديد إلى جانب الاستمرارية؛ ففي قصيدة “الولادة 24 يناير”
ذلك الشهر المقدر علينا سواء في عام 1972 أو في أحداث يناير 1977 أو حتى في 25 يناير 2011 والتى شكلت جميعها الملمح الزمني عنده فيقول:
(تتمزع الهدوم / تعلا طبول الطلق، في العروق)
(اسقينا ميه الحياة / يا نيل وضمنا / جري دمانا الحرة في العروق/ ورم عضمنا)
استجداء الشاعر لمصر ولنيلها جاء من شدة إحساسه بالاحتياج، لكن هذا الاحتياج تحول إلى صرخة مدوية في قصيدة (والحرب لسه في أول السكة)
اتفجري يا مصر
اتفجري بالحرب، ينطلق النهار
اتفجري بالحرب
ضد الجوع
وضد القهر
وضد التيار
هنا جاء استخدام فعل الأمر للتعبيرعن غضب الشاعر ضد القهر والظلم؛
هذا الغضب الذي جعله يخاطب مصر ويأمرها ان تهب منتفضة ضد كل من خذلها لكي تحدث “الولادة” والتي يسبقها الجمل:
تحبل جناين مصر، بالدما
تحبل بصوت الرعد، بالمطر
تحبل بصدر الأرض، في باط السما
تحبل بنفس الأرض
بالعشاق
الشهدا
بالشجر
تحبل برمح الخيول
بدق الطبول
بلسعة الخطر
تحبل بنار الجوع
تحجر الدموع
وتفلق الحجر
في المقطع السابق من قصيدة “الولادة” يختلط الصوت (صوت الرعد) باللون ( الدما / الشجر) – وان كان حضور اللون من خلال وسيط – مع حضور واضح للمكان (السما) مع استمرارية في استخدام أفعال المضارعة (تحبل، تفلق) كلها أدوات شكل من خلالها مشهديته الشعرية،
والتي عانق فيها الأرضي الفاني الفاسد السمائي النوراني الدائم القدسية،
وكأنه يحاول عمل مصالحة بين الخير والشر، هذه المشهدية الكونية قليلا ما تظهرعند الشاعر الذي تتسم أغلب قصائده بمشهدية محلية مرتبطة بالوطن دون الخروج عنه؛ كما في قصيدة الولادة – 24 يناير:
اتجمعت في عتمة الفجرية
طوابير كلاب الصيد
تصيد الأغاني
اتجمعت تدارى في الشبوره
تدارى في دروع الحديد
تبدو هنا المشهدية غير مكتملة، وكأن الشاعر يستخدمها فقط في التوظيف للتأكيد على معنى محدد، وليس على صورة كاملة، ولكن في قصيدة (والحرب لسه في أول السكة) والتي يقول فيها الشاعر:
رفعوا الرايات، في الفجر، متنديه
رفعوا السنابل، بنادق
عبوا البنادق، بارود
الرملة قادت حرايق
والنار، في دم الجنود
والحرب زى جنانين الحريه
مهرة ملهاش حدود
والحرب
لسه، في أول السكه
هنا نجد مشهدية الحرب متكاملة؛ فكل فعل يقود إلى ما بعده؛
وكأنك تشاهد صورة سينمائية، ولكني أرى المشهدية التى صنعها الشاعر في قصيدة “نرسم خريطة مصر” جاءت أقوي:
تطلع جيوس الفقرا، مع شمس الصباح
ترفع رايتها كل يوم في مدينه
تفتح كتاب النيل، وتركب سفينه
النص غلة
والنص مغنا وسلاح
يحلا غُنا حلوان في شمس المحلة
واغنى شبرا، عنوة من كمشيش
يهز صوت الشعرا، جدران السجون
ترج أصوات التلامذة
محاكم التفتيش
في هذا المقطع المشهدي نلاحظ حضور للزمكان، في صورته المحلية، وهي سمة متوقعة في الشعر السياسي خاصة الموقفي؛ فهو مشبع بهموم الوطن ..
محمل بهموم الفقراء والغلابة والعمال والفلاحين
وتحديدا مدينة المحلة خاصة قرية (كمشيش) وهي القرية التي شهدت أحداث مؤسفة عام 1966 ..
المقطع يشمل اسقاط على الوضع السياسي المغلف بالفكر الدينى؛ فجملة “محاكم التفتيش” لم ترد للقافية فحسب؛
كان من الممكن استخدام مفردة آخرى، لكن الشاعر استخدم إحدى أهم مظاهر الفساد في العصور الوسطى؛ ليعبر من خلالها على الوضع الراهن.
المتأمل في المضامين المكانية التي تضمنها المقطع السابق يجدها مرتبطة بأزمنة محددة
“فالزمكان” عند زين العابدين فؤاد يشكل حرفا ثانيا في أبجديته الشعرية؛
حيث نجدا أن أغلب الأزمنة متعلقة بأحداث ثورية حدثت في يناير( 1972 – 1977 ) ليأتي بعد ذلك يناير 2011 ليكمل الثالوث الثوري المصري المجازي الحضور، والذي أكمله الحضور الفلسطيني في
قصيدة (أغنية سرية إلى سيناء)
يافا مسافرة في الدما
وفي الدما تعود
غزة مسافرة في الرصاص
وراجعة في البارود
وانتي مسافرة في السكوت
اكاد أجزم ان القضية الفلسطينية تجاوزت الخلاف السياسي؛ لتصل إلى الخلاف الإنساني،
فما من أديب عربي مهما اختلف مع هذه القضية إلا وتجده يدافع عن فلسطين، والتي ارتبطت بمصر؛ عن طريق سيناء الحبيبة:
يرسم الطريق نحيف نجيف
يتأسس البنا
يطرح الغنا
وردة لشعر سينا
وردة للنهود
لكين تفضل عليها
مدافع اليهود
قد تبدو مفردة (النهود) غير ملائمة لهذا البناء الجاف، ولكن الذات الشاعرة اختارت هذه المفردة لما لها من رمزية السرية والتحجب في مواجهة سفور العدو المغتصب،
وكأن الحرية الحقيقية تتأتى من ومواجهة هذا القيد الوهمي المستتر المتمثل في النهد بمعناه المجازي المقدس- في مواجهة القبح المتمثل في المدفع اليهودي فالنهد رمز للحياة في مواجهة الموت يقول الشاعر:
يجينا صوت إمام خفيف خفيف
ينبت المطر
يورق الشجر
يغنى للتلامذه
يوضح الخطر
وكأن صوت الشيخ إمام هو الصوت المبدد للصمت، ولكنه يظل صوتا خافتا؛
لوجود من يعاديه ويكبته، فيمنعه من الوصول إلينا،
ولكنه رغم كل هذا (صوت ينبت المطر، ويورق الشجر؛ بل ويوضح الخطر). هذا الصوت الثوري هو الحرف الثالث في أبجدية زين العابدين فؤاد، والذي نلاحظة في اختيار عناوين القصائد (أغنية للبداية / أغنية سرية الى سيناء / أغنية حب على حجر / أغنية صغير لصباح / أغنية جديدة إلى فبراير / نشيد المساجين / أغنية إلى فبراير 68/ السفر في جناين الغنا ) ووصلا إلى القصائد نفسها فنجد الشاعر استخدم العديد من المفردات الدالة على الأصوات المباشرة وغير المباشرة
(رصاص / صوت البنادق / صوت السيوف / الطبل / غُنا ).
كما يقول في مقطع آخر:
في السجن نصنع الأصوات بشر
كل صوت ياخد له ألف وش
اللهفة والخطر الصدق قد الغش
صوت الترام يدخل من الادان
فاتت في جنبي الرصاصة
تعلا طبول الطلق في العروق
يترج صوت غانكي.
ولكن هذ الأصوات تسأل في قصيدة أخرى (ازاي تموت الودان مشتاقة دق الطبول؟)
وفي موضع آخر قام الشاعر باستحضار الصوت من خلال الحكاية:
مستنظرك تحكي لي ألف حكاية وحكاية
مستنظرك في الحلم في الطابور
مستنظرك راية
هذه الراية تنقلنا إلى حرف جديد في أبجدية شاعرنا هو اللون بمدلولاته من خلال توظيفه باستحضار الموروث الشعبي
أو بالمعنى المباشر الدال عن المنتج الشعري؛
ففي قصيدة (أغنية على الحجر) يحضر اللون بمفردات التداول اليومي المتوارثة من الموروث الشعبي المختزنة في العقل الجمعي (النيلة الزرقا / الطينة السودا) وفي قصيدة (مدخل إلى عالم الشيخ إمام) يقول:
يبتدي الغنا
تتمد ريشتك تخلق الألوان
الأزرق: البحر
الأبيض: الحمام
الأحمر البداية
والولادة والختام ويبتدي الغنا
تتفتح الورود بالمغنا في الأكمام
ويبتدي الغنا وأول الغنا إمام
وكأن خاتمة القصيدة مناسبة جدا لعنوانها (مدخل إلى عالم الشيخ إمام)
فالمدخل تشكيلي بحت من خلال الصوت واللون؛ الصوت الذي يجيده الشيخ إمام عيسى، واللون الذي لن يراه إلا من خلال الصوت والبصيرة، وهذا مفارقة ذكية جدا من الشاعر..
أكد عليها باستدعاء صوت إمام في القرار، وانتظر منا الجواب.
رغم ثورية قصائد الديوان إلا انهم مجتمعين يدوروا في فلك القصيدة الأهم والأشهر(مين اللى يقدر ساعة يحبس مصر؟)
فالسؤال طوال الوقت مطروح وله العديد من الإجابات ( معرفش .. أنت .. محدش .. أبدا..إلخ)،
لكن الإجابة الوحيدة التي لن نقبل عنها بديلا “ولا حد”.
أرى ان شهرة زين العابدين فؤاد جاءت من خلال صوت الشيح إمام عيسى،
وهذا لا يقلل منه ففي عصرنا الحديث أصبح أنتشار الأغاني أسرع من أنتشار الشعر بكثير .. فمن منا لم يردد
اتجمعوا العشاق فسجن القلعة
اتجمعوا العشاق في باب الخلق
والشمس غنوة م الزنازن طالعه
ومصر غنوة مفرعة م الحلق
يتجمعوا العشاق في الزنزانة
مهما يطول السجن مهما القهر
مهما يزيد الفجر بالسجانة
مين اللى يقدر ساعة يحبس مصر؟
ولاحد ..
زين العابدين فؤاد شاعر كبير جدا لكنه لم يأخذ حقه بالشكل الذى يليق به،
ولم يقرأ بالشكل الذي يستحقه.. أعتقد أننا بحاجة إلى العديد من القراءات والدراسات الأدبية لنكشف من خلالها عن جماليات دولة زين العابدين فؤاد الشعرية.
لمتابعة المزيد موقع أوراق عربية – قرأت لكـ
لمتابعة أوراق عربية علي فيسبوك
** مراجع
- زين العابدين فؤاد، مين اللى يقدر ساعة يحبس مصر، ط1 الهيئة المصرية العامة للكتاب 2012.
- رمسيس عوض محاكم التفتيش في ايطاليا دار الهلال – القاهرة 2002.
- الأعمال الكاملة أحمد فؤاد نجم ط 1 الهيئة المصرية العامة للكتاب.