منتدي أوراق عربية

جابر القصاص يكتب …… حلم الخلافة الإسلامية.. من “الإخوان المسلمين” إلى “داعش” ج1

 

عندما أطلق “مصطفى كمال أتاتورك” الرصاصة النهائية على الخلافة العثمانية بتركيا، في 3 مارس 1924م، تنفيذًا لبنود الاتفاقية التي وقعها قبلها بعام في “لوزان”، والتي تنص صراحة على إسقاط الخلافة الإسلامية، وإعلان تركيا كدولة علمانية، لم يكن يخطر بباله أن لفظة (الخلافة) سوف تتحول من واقع، إلى حلم يهدف إليه أفراد، وتسعى له جماعات، وتتبناه تنظيمات، طيلة عقود وعقود، وإلى ما شاء الله.

وكان من أوائل هؤلاء الأفراد الذين تبنوا هذا الحلم (حسن البنا) بمصر، مؤسس تنظيم وجماعة الإخوان المسلمين، عام 1928م، أي عقب سقوط الحلافة العثمانية بنحو أربعة أعوام.

ولا شك أن ما فعله “أتاتورك” بالخلافة العثمانية هو الباعث والمحرك الرئيسي لحسن البنا، لتبني هذا الحلم والعمل على تحقيقه على المدى القريب والبعيد، لكن ثمة حوافز ومؤثرات أخرى ساهمت في تشكيل هذا الحلم لديه، منها ما ذكره هو بنفسه في مذكرات الدعوة والداعية (ص40- 42)، وهو يحكي عن لقائه بشخص يدعى الشيخ صاوي دراز رحمه الله، “وهو شاب فلاح، كان حينذاك لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، وقد توفي بعد ذلك إلى رحمة الله”، حيث ينقل لنا البنا عن هذا الشخص ما حكاه عن (السيد البدوي) الشخصية الصوفية المعروفة، فقال: “جاء السيد البدوي إلى مصر من مهجره من مكة وكان أهله من المغرب، ولما نزل مصر كانت محكومة بالمماليك، مع أن ولايتهم لا تصح لأنهم ليسوا أحراراً وهو سيد علوي اجتمع له النسب والعلم والولاية، وأهل البيت يرون الخلافة حقاً لهم وقد انقرضت الخلافة العباسية وانتهي أمرها في بغداد، وتفرقت أمم الإسلام دويلات صغيرة يحكمها أمراء تغلبوا عليها بالقوة، ومنهم المماليك هؤلاء. فهناك أمران يجب على السيد أن يجاهد في سبيلهما: إعادة الخلافة، واستخلاص الحكم من أيدي المماليك الذين لا تصح ولايتهم.”

ثم يشرح الخطوات والترتيبات التي قام بها (البدوي) في سبيل تحقيق ذلك،  والتي تمثلت في نشر الدعوة وجمع الناس على الذكر والتلاوة، واستخدام إشارات معينة بهم، على رأسها السيف الخشبي، فإذا اجتمع الناس على ذكر الله وتعلموا أحكام الدين، استطاعوا بعد ذلك أن يشعروا وأن يدركوا ما عليه مجتمعهم من فساد في الحكم، وضياع في الخلافة فدفعتهم النخوة الدينية، واعتقاد واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى الجهاد في سبيل تصحيح هذه الأوضاع، وكان هؤلاء الأتباع يجتمعون كل سنة.

ويشرح لنا أيضًا سر اختار البدوي مدينة طنطا مركزا لحركته، وذلك لتوسطها في البلدان العامرة في مصر، ولبعدها عن مقر الحكم، فإذا اجتمع الأتباع سنوياً على هيئة “مولد” استطاع هو أن يدرك إلى أي مدى تأثر الناس بالدعوة، ولكنه لا يكشف لهم عن نفسه، بل يعتكف فوق السطح ويضرب اللثام مضاعفاً ليكون ذلك أهيب في نفوسهم، وهذا هو عرف ذاك الزمان، حتى كان أتباعه يشيعون أن النظرة بموته فمن أراد أن ينظر إلى القطب فليستغن عن حياته في سبيل هذه النظرة. وهكذا انتشرت هذه الدعوة حتى أجتمع عليها خلق كثير.

ولكن الظروف لم تكن مواتية لتنجح هذه الحركة، فقد تولى مصر الظاهر بيبرس البندقداري، فانتصر على الصليبيين مرات، وانتصر على التتار مع المظفر قطز. ولمع اسمه وارتفع نجمه وأحبه العامة، ولم يكتف بذلك بل استقدم أحد أبناء العباسيين وبايعه بالخلافة فعلاً، فقضى على المشروع من أساسه، ولم يقف عند هذا الحد، بل أحسن السياسة مع البدوي واتصل به ورفع من منزلته.

وبغض النظر عن مدى صحة هذا “السبك” الذي صاغه المدعو صاوي دراز، إلا أنه ترك أثرًا بالغاً في نفس (حسن البنا)، فانطبع حلم إعادة الخلافة في عقله وقلبه، وحاول أن يستخدم نفس طريقة البدوي المزعومة، في جمع الأتباع، وقد انضم إلى ذلك عدة مؤثرات أخرى أهمها تأثر (البنا) بالطريقة الحصافية الشاذلية التي كان ينتمي إليها، وبالمنهج الطرقي الصوفي عامة، خاصة فيما يتعلق بعلاقة المريدين بشيخ الطريقة، والأذكار التي يضعها لهم لتعبدوا بها إلى الله، والذي دفع (البنا) فيما بعد لتطبيقه في صورة رسائل ومقالات ووصايا يحفظها أتباعه، ويتخذونها منهجًا..

إن الناظر إلى جماعة الإخوان المسلمين كجماعة وتنظيم، يلاحظ اختلافهم عن بقية التيارات والجماعات الإسلامية في الرابط بين أفرادها، فالمعتاد في كافة التيارات والجماعات والفرق والمذاهب الإسلامية أن يكون الرابط هو المنهج الفكري والعقدي الذي يدينون به، وعلى هذا يمكنك دراسة أفكار ومناهج كل فرقة، وتدوين معتقداتها بطريقة رقمية تسلسلية، واحد.. اثنان.. ثلاثة.. ………. إلخ..

ويمكنك تطبيق ذلك على كافة الفرق قديمها وحديثها، كالخوارج والمعتزلة والجهمية، والأشاعرة، وحتى الشيعة بمختلف طوائفهم، وغيرهم.. لكن مع جماعة الإخوان المسلمين لا يمكنك الوقوف على منهج عقدي أو فكري يربط بينهم، فلا يمكنك عرض تسلسل مبادئ وأصول مذهبهم بتلك الطريقة التسلسلية، بل إنك لتعجب حين ترى اختلاف أفرادها في المعتقد، فتجد هذا سلفيًا، وذلك صوفيًا، وذاك أشعريًا، ومنهم من لا يتبع أي منهج عقدي أو فكري محدد، ومع ذلك هناك رابط قوي يجمع بينهم، على اختلاف توجهاتهم الفكرية والعقدية.. وهذا الرابط هو: “الخلافة”..

يقول (حسن البنا) في رسالة المؤتمر الخامس تحت عنوان (الإخوان المسلمون والخلافة): “أن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير فى أمرها، والاهتمام بشأنها”، ويضيف: “والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها فى رأس منهاجهم، وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التى لابد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد أن تسبقها خطوات”

وقد صرح المرشد العام الحالي لجماعة (محمد بديع) باستمرار هذا الحلم لدى الجماعة، لا سيما بعد أحداث ما يسمى بالربيع العربي، إذ يقول في بعض المناسبات: “إن تكوين الخلافة الراشدة من الأهداف المرحلية التي حددها الإمام حسن البنا لتحقيق الغاية العظمى للجماعة، وهي أن تحيا من جديد الدولة المسلمة وشريعة القرآن، مشيرًا إلى أن تحقيق الغاية العظمى بات قريبًا بعد ثورات الربيع العربي”

وهكذا نجد حلم إقامة الخلافة متأصلاً في عقول وقلوب الجماعة حتى اليوم، وهم وإن خالفوا مبدأ إمامهم الأول (حسن البنا) في رفض “الحزبية” فأقاموا العديد من الأحزاب في مختلف دول العالم، إلا أنهم ما زالوا يسيرون على نهجه، ومتمسكين بهدفه وغايته، فهو في الحقيقة حلم الجماعة كلها، لا حلم مؤسسها وحده..

والعجب العجاب أن ما سعت إليه جماعة الإخوان المسلمين عبر تاريخها الذي يمتد إلى أكثر من ثمانية عقود، والهدف الذي اصطدمت في سبيله بمختلف الأنظمة والحكومات، وتعرضت لأشنع صنوف التعذيب والتنكيل والاضطهاد، فلم تستطع بلوغه ولا الوصول إليه، بينما استطاع ما يسمى بتنظيم “الدولة الإسلامية بالعراق والشام” والمعروف باسم “داعش” إقامته في سرعة رهيبة، وامتدت أذرعه لتصل إلى مختلف الدول العربية والإسلامية، فقد قاموا بتنصيب خليفة لهم، وبايعوه في عدة مناطق، وخاضوا – وما زالوا – حروبًا شرسة تحت راية هذا الخليفة، ضد الدول الإسلامية ذاتها فضلاً عن الدول الغربية..

وإذا كانت نشأة جماعة الإخوان المسلمين تبدو معروفة لنا، إلا أن نشأة وتكوين تنظيم “داعش” يبدو خافيًا تمامًا عن عامة الناس، وثمة تكهنات كثيرة حول نشأته وحول توجهاته وانتماءاته، لكنه بالتأكيد وليد الصراعات الطائفية التي ترزح تحتها العراق والشام، والانقسام العرقي والمذهبي هناك، علاوة على دور الغزو الأمريكي في تأجيج مزيد من الفتن والصراعات بين أبناء هذه الشعوب، لتحقيق ما يسمى بـ “الفوضى الخلاقة” وغيرها من المخططات التي تهدف جميعها إلى إسقاط أي قوى مناوئة للغرب في الشرق الأوسط، فوسط هذا الركام المتأجج كله نشأ هذا التنظيم الذي يبدو دمويًا وقتاليًا من الوهلة الأولى.. وبالتأكيد اختار لنفسه سبيلًا يختلف تمام الاختلاف عن السبيل الذي سلكه وما زال يسلكه تنظيم “الإخوان المسلمين”.

وللحديث بقية بإذن الله..

متابعينا علي فيسبوك
اضغط لتقييم المقال
نشكرك للتقييم ، رأيك يهمنا :)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق