منتدي أوراق عربية
ذاكرة التاريخ
زار ملك اسكتلندا يوما إحدى مدارسها والتقى بمعلميها وإدارييها الذين لم يدخروا وسعا في تعديد مناقبه وتكثير مآثره. لكن الملك السعيد قرر أن يشنف أذنيه المفرودتين كجناحي وقواق على جانبي جمجمته المنتفخة بنفاق جيل المستقبل، فقادته قدماه إلى حصة تاريخ لم تدخر معلمتها وسعا في تلقيح أذهان النشء بما وعى التاريخ من سير. فأشار الملك بإصبع متعرج نحو كتلة من البكارة سائلا: “من أعظم ملوك اسكتلندا يا صغيري؟” رد النجيب دون أن يتلعثم: “الملك جوستافوس فاسا يا سيدي.”
أشاح الملك بوجهه عن إجابة غير متوقعة وجال ببصره في أرجاء القاعة حتى استقرت عيناه على إصبع ممتعض. قال الملك: “هل تختلف في وجهة النظر مع زميلك يا بني؟” أجاب التلميذ: “نعم سيدي. أرى أن الملك جوستافوس أدولفوس هو أفضل الملوك الذين حكموا اسكتلندا قاطبة ودون منازع.” عندها دارت القاعة برأس ملك لم ير في كتب التاريخ إلا هامته، ولم يحدثه وزراؤه ولا مستشاروه عن أحد في علو قامته.
عندها، أرادت المعلمة أن تتدارك الموقف حتى لا يتطور إلى ما لا يحمد عقباه، فانحنت على حين غرة من الملك فوق أذن تلميذ نجيب وأسرت فيها بهمس لم يتناه إلى سمع الملك. عندها، انتفض الطفل من مكانه كمن لدغته حية التاريخ، فلوح بأصابع ملؤها الثقة في وجه الملك. أفاق الملك من غيبوبته على صرير الكرسي تحت جسد الصغير، ونظر نحوه هاشا، فقال المغرر بطفولته: “أفضل من حكم البلاد سيدي هو الملك أوسكار.”
عندها اعتدل الملك في وقفته، واستعاد رباطة وعيه وقال منتفخ الأوداخ نافج الصدر: “حقا! وما المآثر التي تميز بها الملك أوسكار على سابقيه يا ترى؟” كان الملك يتحدث في ثقة كبيرة مباعدا بين حروفه كطاووس بين جماعة من الحجل. لكن المسافة الزمنية بين السؤال والإجابة تباعدت هذه المرة، وتكسرت الحروف في فم الطفل الذي تلقف التاريخ مزورا من فم معلمة ارتعدت فرائصها أمام ملك لم تفرك أذناه قط أصابعها المفلطحة. وقف الطفل حائرا وسط سؤالين تدحرج من فوق أحدهما بلكزة كاذبة، وتفرقت الحروف فوق شفتيه القرمزيتين ليعلن في خجل: “لا .. لا .. لا أعرف يا سيدي.” عندها أقر الملك أمام تاريخ لم يعرفه بأنه أيضا يجهل الإجابة، فقال مطأطئ الرأس صاغرا: “ولا أنا يا صغيري.”
يمكننا أن نغافل الجغرافيا ونغير أسماء الشوارع وتفاصيل المدن، فنزيح تماثيل السابقين وندفنها في رمال الصحراء اللاهبة كما فعل حكام الأولميك ذات جهالة لننصب تماثيلنا الحجرية مكانها وسط الميادين وعند فوهات المدن. يمكننا أن نوزع صورنا فوق المآذن وواجهات المباني وأن نصنع طائرات وهمية تطير في سماء الزيف لنصنع انتصارات رملية فوق ضفاف التاريخ، لكن التاريخ لن يضع بين جلدتيه السميكتين إلا ما سطرناه فوق أرض الواقع من حقائق.
لن يحسب التاريخ التنكيل بالمعارضين والزج بهم في غياهب السجون مجدا، ولن يدون خطب النفاق المطولة التي تدبج عند كل زيارة ميدانية، ولن يقف بين شفتي معلمة أرادت أن تنجو بمفردات مرتبها ليتأمل الحروف الهامسة هناك. لن يسجل التاريخ شهادات أبناء الحزب ولن يضم أوراقهم الملفقة بين جلدتيه. لن يحصي التاريخ أعداد القصور الرئاسية ولن يصور المقابر الملكية ولن يدون أرقام السيارات الفارهة التي يركبها الزعيم الملهم وخدم قصره. لكنه حتما سيسجل أعداد الفقراء وأعداد الهكتارات المغتصبة من جسد الوطن. سيسجل التاريخ أعداد المقهورين وعشش الصفيح وأعداد المصابين بالسرطانات والأمراض العضال وأعداد الفقراء والمهمشين والمهجرين والشهداء. وحتما ستسقط كل أوراق التوت التي يضعها الزعماء المتغطرسون فوق عوراتهم حين تذيب شمس الحقيقة شمع الزيف من فوق تماثيلهم الرخيصة.
عبد الرازق أحمد الشاعر- خاص لأوراق عربية
أديب مصري
متابعينا علي فيسبوك
اضغط لتقييم المقال
نشكرك للتقييم ، رأيك يهمنا :)
صدقت فيما قلت وصدقت قصتك فى حينها عندما كان التاريخ يوثق الواقع دون زيف او تحريف اما الان فهل ترى اننا نعيش فى وقت تحكمه نفس المعايير من الصدق والنزاهة الازمه لتوثيق التاريخ وهل يوجد من يسمى بالمؤرخ قديما كان المؤرخون من اشهر اعلام الدول بل اعلام العالم اما الان اكاد لا اعرف سوى اسم او اسمين على اعتبار انى احد العامه , فهل ماذات شمس التاريخ حقا مشرقه ذات شعاع حارق ام انها صارت ضوء بلا وهج يسقط على تماثيل الشمع الزائف لتذيدها بريقا ؟